بلاغة التكرار في قصيدة ” مابعد الأربعين “
بلاغة التكرار في قصيدة (ما بعد الأربعين)
د. فرح عبدالجبار القاضي
ما بعد الأربعين، قصيدة لشاعر القرنين عبد الرزاق عبد الواحد أودع فيها ما أفرزته النفس المربكة التي تربعت على عرش الأربعين، غادرها الشباب ولم يغادر منها، تركها تلوذ بين الصِبا والتصابي وتسعى بين حرية الشبيب وحرمة المشيب، ومن الفنون البلاغية التي حضرت بشكل لافت للنظر هوالتكرار الذي بدى وكأنه لجةً نفسيةً تلوح بين الحين والآخر بنفس قصير يكاد لا يعدو مقطعا إلا وكان ذلك التكرار حاضراً بقوة ومنذ المطلع بقول الشاعر:
مضى ما مضى منك خيراً وشر وظل الذي ظل طي القدر
افتتح بها عبد الرزاق عبد الواحد القصيدة وبقى يرددها وكأنه يرثي بها النفس التي مضى من عمرها ما لم يبق بقدره باق-على حد ظنه-فما عادت تحمل من زادها إلا دموع المقل وآمالاً تلوح بجناح مكسور بين طيات السهر، وبصيرة غلبت حدة البصر، مع مكابرة قلقة عاجزة عن استيعاب المفارقات الصعبة.
ثم يسمع ضجيج الأنين النفسي من جديد ويعود تكرار العبارة نفسها بقوله:
مضى ما مضى منك والقادمات تضيء قناديلها للكِبر
فهو يتهيأ لانتقالة صعبة انتقالة قسرية لسفرة الشيخوخة التي تمقتها الروح وتنفر منها النفس البشرية، وكأن بخصره نزيف داخلي ينز الحسرة والوجع.
ثم تتفجر آهات الروح الموجوعة لتصرخ صراخا داخليا يدوّي فضاء النفس فتصحو معه كل المشاعر المتخبطة.
ويفر قلبه من جديد يغالب الأسر والمؤتسر، ويردد مكرراً العبارة ذاتها :
مضى ما مضى لا نهتك النهاة ولا آمر حيث تسعى أمر
يصف عبد الرزاق عبد الواحد طباعه الصعبة التي ما كانت يوما منصاعة، اذ لم يطب لها إلا قمم المعالي ورأس الهرم، فكيف ستقاد لأمر الكِبر؟ فيقف حائرا على منحدر الأربعين يضجّ قلبه بالحنين إلى بؤس الماضي قبل سروره، إلى الضحكات تسبقها الغصات ، إلى كل شيء غَبَر، وصاحبته في رحلة الحنين نفس آلفت كل العبر، فالمضحكات عندها كالمبكيات ، والصافيات مثل المكدرات، والبدايات تشبه النهايات والفرح مثل الضجر، ذاب طعم الحياة مع مرارة ثقل الخطى وضعف البصر.